“نحن أمة بلا مربين” هذه الجملة القصيرة، يمكن أن تلخص واقعنا في المشهد التربوي, ليس في مصر فقط, وإنما في عالمنا العربي كله!
نعم هناك كليات “التربية”, وهناك وزارة “التربية والتعليم”, ولكن كما نعلم أن الكلية –والوزارة- لا علاقة لها بالتربية, وإنما هي تعمل على إخراج مدرسين, نعم, المدرسون يوصفون تجاوزاً بأنهم “المربون الأفاضل”, ولكن الواقع يقول أن دور المدرس مقتصر على التعليم .. هذا إن كان لا يزال يقوم به!!
ورغما عن الأهمية القصوى ل “التربية”, فإننا لا نجد وظيفة تسمى ب: “مٌربي”, وإنما نجد العديد من الأفراد والجهات: الوالدان والأجداد, -الخادمة إن وُجدت- رياض الأطفال, المدرسة, -وربما: الكُتّاب/ الفقيه، الذي يقوم بتحفيظ القرآن ،الذي يقومون بتقاسم هذه العملية المحورية في “نشأة الإنسان”, عملية “التكوين الوجداني”.
التكوين الوجداني
وبسبب هذا التوزيع حدث التشتت, وأصبح كل طرف يلقي بمسئولية التقصير فيها على باقي الأطراف, وخاصة أن “التكوين الوجداني” أكثر حساسية من أي عملية جراحية، فالأب والأم غالباً في العمل, وهم أرسلوا أبناءهم إلى “روضة الأطفال”, ليتولى القائمون عليها هذه العملية, والقائمون على رياض الأطفال, يرون أن دورهم هو أن يوفروا مكانا للطفل يلتقي فيه بأطفال آخرين, يمرح ويلعب معهم, وكذلك يعلموه بعض المهارات الأساسية وكذلك بعض السلوكيات وربما بعض القيم كذلك!
ولكن التربية ليست دورهم الأساس! وهو نفس ما يقول “الفقي” والذي يرى أن دوره هو تحفيظ الأطفال القرآن, فأولياء أمور الأطفال أرسلوا إليه أطفالهم ليحفظهم القرآن وليس ليربيهم! فهو ليس مربياً! وتكلمنا في مقال سابق عن تقديم الدين للأطفال يمكنك الإطلاع عليه من هنا
وبداهة فإن حفظ القرآن لا يعني بأي حال أن يصبح الطفل ذا أخلاق قويمة! نعم مؤخراً بدأت تظهر بعض “الكيانات”, التي تُعنى بسلوك الطفل وبتقويمه, وهي خطوة حميدة, تعتبر إضافة جيدة ومقوية لرياض الأطفال, ولكنها لا تزال في بدايتها, وأخشى ما أخشاه أن يكون تركيزها كذلك “مادياً عملياً”, فتكتفي بتعليم الأطفال بعضاً من المهارات اليدوية وكذلك كماً إضافياً من “اللغات”!
دور الوالدين في التربية
قد يقول قائل:
إن التربية هي أصلاً دور الوالدين, وهو ما ينبغي عليهم القيام به. فأقول: نعم, التربية أصلاً دور الوالدين, ولكن الآن هناك نسبة لا بأس بها من الأمهات أصبحت تخرج إلى العمل, فلم يعد لديها وقت كاف للأطفال, فأصبحت رياض الأطفال –وربما رياض اليوم الكامل- هي الحل والحال!
ولا بد أن نعترف أن هذه النسبة لا تزال هي الأصغر, والنسبة الأكبر من الأمهات المصرية هي “ربات بيوت”, ولكن رغماً عن هذا فالحال ليس أفضل, وذلك لأن الأكثرية منهن لا يحاولن اكتشاف “أصح” الطرق التربوية, ويكتفين بالخبرات الشخصية المتوارثة, التي أخذنها من الأمهات أو الجيران أو الصديقات –وحالياً من مواقع التواصل الاجتماعي كذلك-, والعجيب أن هناك من يقرأن إلا أنهن لا يطبقن, ويطبقن السائد في المجتمع!
ولا يعني هذا أننا نلقي اللوم على المرأة, فالرجل أيضاً ملوم على تقصيره, لوماً أشد من المرأة, فالمرأة على الأقل تعمل ولكنها مقصرة, بينما الرجل نازع ليده من التربية بدرجة جد كبيرة, فهناك الكثير من الآباء المسافرون بالخارج, ويكتفون بالتمويل, وهناك من يعمل طيلة النهار ويعود قرب منتصف الليل, ومن ثم فهو غير متواجد كذلك, وهناك من لديه الوقت ولكنه وبكل أسف يظن أن دوره الإنفاق والعقاب!!
إننا كلنا نعتبرها سبة كبيرة عندما يقال لنا: “إنت مش متربي” أو “ابنك مش متربي”, ونثور ونهيج ونتعارك, ولكن لو هدأنا قليلاً وسألنا أنفسنا: هل “خضعنا” لعملية تربوية حقيقة, قائمة على غرس القيم والأخلاق وتنمية الوجدان أم لا؟!
المشكلة أن مفردة “التربية” في العربية تعني أصلاً النمو والزيادة, وهو ما يقوم به الوالدان بشكل فطري, فيطعمان ويكسيان, ظناً أنهما أتيا بما عليهما, بينما تفرق الألمانية مثلاً بين الفعلين, فلديها الفعل: والذي يعني التربية التي تركز على النمو الجسدي, ويشترك فيها الإنسان والحيوان. aufziehen والتي تعني التربية المعنوية, والتي لا تكون إلا للإنسان فقط. erziehen
نعم, نحن نقر بأهمية رياض الأطفال, والمدرسة, وبعظيم دور الأب والأم, ولكن ما لاحظته مؤخراً هو أن دور هذه المنظمات صُيّر –عمداً أو بغير عمد- عملياً, فأصبحت وجهة مجتمعاتنا الحديثة هو إعداد أبناءها منذ طفولتهم ليكونوا “عمالاً” ناجحين مميزين, يعملون بجد واجتهاد .. وذكاء .. وذكاء ليجلبوا لأرباب العمل المزيد من المال!
الخبير التربوي
ونحن لا نجادل في أهمية “الإعداد العملي” للحياة العملية, ولكن علينا الانتباه أن هذا ليس المكون الرئيس ولا الدور الرئيس لكلٍ منا في حياته! إننا كأفراد وكمجتمعات نعاني من تدن رهيب في المستوى الأخلاقي والوجداني, -والتي ترتب عليها التخلف الاجتماعي والاقتصادي والعلمي- وأرى أننا بحاجة ماسة إلى ابتكار وظيفة: “مربي”! وهو ما لم يحدث حتى الآن رغماً عن الحاجة الماسة إليه, ورغما عن ظهور العديد والعديد من الوظائف الجديدة, والتي تعد نوعاً من الرفاهية والترف, مثل: مخطط حفلات!!
نحن بحاجة إلى مٌربٍ يتعهد الأطفال ويتعاهده الكبار ليقدم لهم النصح! مٌرب يغرس القيم والأخلاق … مٌرب ينمي الوجدان! المشكلة أننا كلنا نقر ب: إنما الأمم الأخلاق ما بقيت … فإن همو ذهبت أخلاقهم ذهبوا ورغماً عن ذلك فمادة الأخلاق عندنا كمادة في المدرسة مادة هامشية لا يُلقى لها بالاً, وهي من باب سد الخانات ليس أكثر!
المشكلة أننا أخذنا طرقاً طويلة وغير مباشرة ل “تقويم الإنسان”, ولم تفلح حتى الآن بالشكل الكافي, وذلك لأنها لا تضرب بشكل مباشر على الوتر الحساس!
نعم نقر أن المدرس مهم, والإخصائي الاجتماعي مهم, ولكن الإخصائي يكتشف المشكلة وقد يساهم في حلها, بينما دور المربي هو ألا توجد المشكلة أصلاً .. أو أن تصدر يسيرة!
إننا الآن نسمع من حين لآخر عن “الخبير التربوي” فلان, والخبير التربوي علان, وهم من القلة بمكان, ناهيك عن أنهم غير مشهورين البتة, فهم لا يقارنون في الشهرة مثلاً بالمشائخ أو العلماء في أي مجال علمي! فنحن نحتاج إلى عشرات عشرات أضعاف الموجودين حالياً, حتى يستطيعوا أن يتركوا أثراً في مجتمعاتنا!
أعلم أن كثيرين قد يرون “المربي” رفاهية وقد تظل كذلك, حتى يقتنع أن يقتنع بعض “علية القوم” بهذا المنظور ويبدؤون في إيجاد “مربي” لأطفالهم, ساعتها سيبدأ أفراد الطبقات الاجتماعية الأقل في الاقتناع والتقليد .. ولكن حتى نأخذ هذه الخطوة ستظل مجتمعاتنا تعاني .. ونظل نئنّ .. ونتساءل: أين الخلل؟!!